الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
تَعَرَّضنا في نظريَّة المشترك الإنساني إلى ذِكْر كلمة "الشعوب" كثيرًا، ومع أنَّ المعنى واضح في أذهان كلِّ مَنْ يقرءون الكلمة، إلَّا أنَّ واقع الأمر أنَّ
تَعَرَّضنا في نظريَّة المشترك الإنساني إلى ذِكْر كلمة "الشعوب" كثيرًا، ومع أنَّ المعنى واضح في أذهان كلِّ مَنْ يقرءون الكلمة، إلَّا أنَّ واقع الأمر أنَّ اللفظ محيِّرٌ للغاية! فعن أيِّ شعبٍ نتحدَّث؟!
إنَّ الشعوب تُقَسَّم في الحقيقة إلى تقسيمات عديدة تجعل الأمر في غاية التعقيد، كما أنَّ هناك تداخلات لا نهائيَّة بين الشعوب تجعل الأمر أكثر تعقيدًا.
فمثلًا يُمكن أن نُقَسِّم الشعوب تقسيمًا عقائديًّا، فيُصبح عندنا شعوب إسلاميَّة، وشعوب نصرانيَّة، وشعوب يهوديَّة، وشعوب بوذيَّة، وأخرى كونفوشيوسيَّة.. وهكذا، وهذا تقسيمٌ واقعيٌّ له عشرات التطبيقات في واقعنا، واستخدمه كثيرٌ من المنظِّرين عند تحليلهم لأحوال العالم.. ونحن إذا دخلنا في تفصيلات كلِّ عقيدةٍ اكتشفنا أنَّ هناك شعوبًا داخل الشعوب! فداخل الشعوب النصرانيَّة -مثلًا- هناك شعوب كاثوليكيَّة، وأخرى أرثوذكسيَّة، وثالثة بروتستانتيَّة، ورابعة أرمنيَّة، وغير ذلك من فروعٍ داخل العقيدة الأم، وكذلك عند المسلمين تجد شعوبًا سُنِّيَّة، وأخرى شيعيَّة، وثالثة خارجية[1]، وتفريعات أخرى عقائديَّة كثيرة، وهذا التقسيم يرفضه البعض من قبيل محاولة التجميع لا التفريق، لكنَّه تقسيمٌ واقعيٌّ له تطبيقات ملموسة، بل إنَّ هناك بعض صراعات وصدامات كبرى بين أفراد الشعوب المنبثقة من العقيدة الأم، والتاريخ يشهد صدامات الكاثوليك مع الأرثوذكس، وصدامات الكاثوليك مع البروتستانت، كما يشهد صدامات المسلمين السُّنَّة مع الشيعة، وسواءٌ قَبِلْنَا ذلك أم رفضناه فإنَّه واقعٌ نراه ونُعاني منه.
هذا تقسيم!
وتقسيمٌ آخرٌ للشعوب على أساس القوميَّة أو الوطنيَّة، وهو يعتمد على الشكل الحديث للدول في العالم، فهناك شعبٌ سوري، وشعبٌ فيتنامي، وشعبٌ إسباني، وآخرٌ هولندي، وخامسٌ برازيلي.. وهكذا.
وهذا تقسيمٌ مهمٌّ وفعَّال، لكنَّه لا يُلغي الأوَّل، بل يتداخل معه بشكلٍ عجيب، فالشعب الهولندي -مثلًا- به كاثوليك وبروتستانت ويهود ومسلمون وبوذيُّون.. وغيرهم، والشعب الكاثوليكي به هولنديُّون وبرازيليُّون ونيجيريُّون.. وغيرهم!
وهناك تقسيمٌ ثالثٌ للشعوب على أساس العرق، فهذه شعوبٌ عربيَّة، وأخرى كرديَّة، وثالثة آريَّة، ورابعة هانيَّة[2]، وهذا تقسيمٌ مهمٌّ كذلك، لكنَّه لا يُلغي ما قبله؛ إنَّما يتداخل معهما في تشابكٍ معقَّد.
وهناك تقسيم رابع جغرافي يتَّسع عن التقسيم القومي أو العرقي، ليشمل عدَّة شعوب تعيش في منطقة جغرافيَّة معيَّنة؛ فهناك شعوبٌ إفريقيَّةٌ -مثلًا- أو على سبيل التخصيص هناك شعوبٌ شمال إفريقيَّة، أو شرق أوسطيَّة، وهناك شعوب جنوب شرق آسيويَّة، وهناك شعوب شرق أوربيَّة، أو غرب أوربيَّة، وكلٌّ من هذه الشعوب له خصائصه وصفاته التي تجعل تقسيمهم على هذا الأساس الجغرافي تقسيمًا علميًّا سليمًا.
وهناك تقسيمٌ خامسٌ مهم؛ وهو التقسيم الفكري أو الثقافي، الذي يُقَسِّم شعوب العالم حسب الثقافة المنتشرة بها، فهناك شعوب شيوعيَّة -مثلًا- أو شعوب رأسماليَّة، أو شعوب مُتَدَيِّنَة، أو شعوب علمانيَّة.. أو غير ذلك من الانتماءات الفكريَّة التي تتغيَّر تبعًا للزمان والمكان.
فكلُّ هذه تصانيف صحيحة ومنطقيَّة، فوق أنَّها واقعيَّة وليست نظريَّة، والنتيجة هي وجود عشرات التداخلات بين الشعوب، وهذه التداخلات تجعل الشكل النهائي معقَّدًا للغاية، ولنضرب مثالًا يُوَضِّح لنا هذه الصورة العجيبة..
إنسانٌ مسلمٌ من عرقٍ كرديٍّ يعيش في تركيا.. هذا الإنسان ينتمي إلى الشعب الإسلامي بوصفه مسلمًا، وهو كذلك ينتمي إلى الشعب الكردي حسب عرقيَّته، وينتمي في الوقت نفسه إلى الشعب التركي بواقع قوميَّته ووطنه وجنسيَّته، وهذا الإنسان لو هاجر إلى إنجلترا -مثلًا- وعاش بها، ثُمَّ أخذ جنسيَّتها بشكلٍ أو بآخر، صار منتميًا إلى الشعب الإنجليزي فوق انتماءاته السابقة!
فهذا المثال به إنسان ينتمي -دون تكلُّف- إلى شعوبٍ أربعة!
وهذا ليس مثالًا نادرًا!
بل إنَّ الأصل أن ينتمي كلُّ إنسانٍ في العالم إلى عدَّة شعوب، إذا نظرنا واقعيًّا إلى التقسيمات التي ذكرناها، مع أنَّه يحمل في النهاية جواز سفرٍ واحد.. بل إنَّ بعض الدول تُجيز لمواطنيها أن يحملوا جواز سفرٍ لدولةٍ أخرى دون أن يتنازل عن جنسيَّته الأصليَّة، فيُصبح قانونيًّا منتميًا إلى دولتين!
ماذا يُمكن أن يحدث إزاء هذه التداخلات اللا نهائيَّة؟!
واقع الأمر أنَّ هذه الصورة المتشابكة تحمل في داخلها فرصة، كما أنَّها تحمل في داخلها أزمة!
أمَّا الفرصة فهي اتساع دائرة التواصل والتعارف بشكلٍ ضخمٍ للغاية، ففي المثال الذي ذكرناه منذ قليل، يستطيع هذا الإنسان المسلم الذي يعيش في تركيا أن يتواصل مع كلِّ الشعوب الإسلاميّة في العالم؛ لأنَّها تشترك معه في المشترك الأسمى وهو العقيدة؛ فهو قريبٌ جدًّا من شعب إندونيسيا، ومن شعب مصر، ومن شعب المغرب، وهو كذلك قريبٌ جدًّا من المسلمين الذين يعيشون في الأقطار غير الإسلاميَّة.. إنَّه بهذه الصورة قريبٌ من مليار ونصف مليار إنسان في الدنيا!
والإنسان نفسه يستطيع أن يتواصل بقوَّة مع 77,8 مليون إنسان تركي يحملون جنسيَّته نفسها، ويعيشون معه على الأرض نفسها، وينتمون سويًّا إلى القوميَّة نفسها، ويُدافعون معًا عن البلد نفسه.
والإنسان نفسه يُمكن أن يتواصل مع ستِّين مليون كرديٍّ تقريبًا في عدَّة دولٍ من دول العالم؛ لأنَّه من ناحية العرق قريبٌ منهم، وينتمي إليهم، وتربطه بهم روابط تاريخيَّة ولغويَّة، فضلًا عن روابط العرق، وكذلك روابط العادات والتقاليد.
وهذا الإنسان لو هاجر إلى إنجلترا وحمل جنسيتها -أو حتى عاش على أرضها دون التجنُّس بجنسيَّتها- فتُصبح له روابط وقنوات تعارف مع الشعب الإنجليزي، وقد يكون ذلك مع الشعوب الأوربيَّة بشكلٍ عامٍّ!
إنَّها في الحقيقة عشرات الدوائر من الاتِّصال تجعل فرصة التعارف بين الشعوب كبيرة وقريبة.
كانت هذه هي الفرصة!
فأين الأزمة؟!
الأزمة تحدث عند تداخل الأولويَات، وتعارض المصالح، وتضارب الانتماءات!
عند هذا التعارض أيَّ الانتماءات نُقَدِّم؟!
إنَّ هناك عشرات التباديل والتوافيق في هذا الشأن، وستجد اختلافًا جمًّا بين المفكرين والمنظِّرين، والأجمل -لا شكَّ- أن نستطيع التوفيق بين كلِّ الانتماءات دون تصادم، لكن ليس كلُّ ما يتمنَّاه المرء يُدركه، وكثيرًا ما تحدث مفاضلة، فإمَّا أن تنتمي لهذا الشعب أو لغيره! وهناك قد يحدث صدامٌ غير مرغوبٍ فيه أبدًا؛ لأنَّه في النهاية يحدث مع أناسٍ قريبين جدًّا! سواءٌ كانت القرابة عقائديَّة أو قوميَّة أو عرقيَّة.. أو غير ذلك.
هناك مفكِّرون وشعوب يُقَدِّمون القوميَّة على كلِّ شيء، فانتماؤهم إلى الوطن الذي يعيشون على أرضه أعلى من أيِّ انتماء، وقد تكون فرنسا مثالًا جيِّدًا لهذا، وهناك مَنْ ينتمون لعرقهم أكثر من انتماءاتهم لأيِّ شيءٍ آخر، وهذا قد نراه في عدَّة دولٍ متقدِّمة؛ مثل: ألمانيا والصين، لكنَّنا نراه كذلك في المناطق الصحراويَّة والبدويَّة والجبليَّة، وهناك مَنْ يُقَدِّم العقيدة، فليس عنده مانع أن يهجر وطنه في سبيل الحفاظ على عقيدته، كما رأينا في قصَّة المهاجرين المسلمين الذين هاجروا من مكَّة إلى الحبشة ثُمَّ إلى المدينة المنوَّرة، وكذلك قصَّة البروتستانت الذين هاجروا من أوربَّا إلى أميركا.
وأنا ماذا أرى في هذه القضيَّة؟!
واقع الأمر أنَّني أرى ما قَدَّمْتُه في النظريَّة!
فالمشتركات الأعلى في بناء النظريَّة يكون لها الانتماء الأشدُّ والأقوى، وإن كنتُ أُعيد التذكير بأنَّ الأفضل هو الجمع بين الانتماءات دون صدام إن أمكن ذلك..
والأعلى في النظريَّة هو المشترك الأسمى، وهو العقيدة؛ ولذلك فأنا أرى أنَّ أعلى الانتماءات قيمة، وأسبقها أولويَّة هو العقيدة والدين، وكلُّ ولاءٍ دون هذه العقيدة يُؤَخَّر، وفي سبيل العقيدة يُضَحَّى بكلِّ ما هو تحتها.. يعني يُضَحَّى بكلِّ شيء!
ولا يُفْهَم من هذا أن العقيدة تأمر أهلها بالعدوان على أقوامهم وأوطانهم، بل إنَّ العقائد السماويَّة تأمر دائمًا بصلة الأرحام، وقوَّة الرابطة الأسريَّة، والدفاع عن الأوطان، لكن كل هذا في حال عدم وجود تعارض مع العقيدة..
وما الانتماء الثاني بعد العقيدة؟!
في النظريَّة تأتي المشتركات الإنسانية العامة بعد المشترك الأسمى، لكنَّ هذه المشتركات عامَّةٌ على كلِّ البشر، ولا يحدث لها انتماء، ولا تُرسَم بها هويَّة.. فلننظر إذًا إلى المشتركات الإنسانيَّة الخاصة لنُحَدِّد ولاءنا تبعًا لها.
يأتي في مقدِّمة هذه المشتركات -حسب النظريَّة- مسألة الثقافة والفكر؛ ومن ثَمَّ فالولاء الثاني في الأولويَّة هو الولاء الفكري، وقد يُصبح هذا الولاء هو الولاء الأوَّل إذا غاب الدين تمامًا عن حياة شعبٍ فصار ملحدًا، أو كالملحد! والولاء الفكري بهذه الصورة أعلى من كلِّ الولاءات الأخرى بخلاف العقيدة طبعًا.
وهنا ملاحظةٌ دقيقةٌ قبل أن ننتقل إلى الولاء الثالث.. وهو أنَّ الولاء أو الانتماء الأوَّل "وهو العقيدة" والثاني "وهو الفكر" يختارهما الإنسان بإرادته وعقله.. فهما لم يُفرضا عليه فرضًا، مثل مسألة الميلاد من أب وعرقٍ معين، أو الميلاد على أرضٍ معيَّنة، فكاثوليكي رأسمالي يعيش على أرض ألمانيا وهو من عرق آري، واضح أنَّه اختار الكاثوليكيَّة عقيدة، واختار الرأسماليَّة فكرًا، لكنَّه لم يختر أن يُولد على أرض ألمانيا، ولم يختر أن يُولد من عرقٍ آري، ولو وُلد على أرضٍ فرنسيَّةٍ لكان فرنسيًّا، ولو وُلد من عرقٍ كرديٍّ لصار كرديًّا، فهو فاقد الاختيار في الحالتين الأخيرتين، وله كامل الاختيار في الحالتين الأوليين، فهنا تبرز أهميَّة هذا الترتيب، وأهميَّة احترام هذا الترتيب لعقل الإنسان وقدراته ومواهبه.
وبالإضافة إلى هذا فالإنسان يستطيع أن يُغَيِّر من عقيدته ومن فكره إذا تبيَّن له عجزهما؛ فالكاثوليكي مُخَيَّر أن يبقى على دينه أو يختار الإسلام مثلًا، وهو مُخَيَّر أن يبقى رأسماليًّا أو يُصبح شيوعيًّا.. أو غير ذلك من المناهج، بينما لا يستطيع بحال أن يُغَيِّر عرقه أو موطن ميلاده.
ثُمَّ ما الانتماء الثالث؟!
حسب ترتيب النظريَّة تأتي الأرض في المرتبة التالية للثقافة في المشتركات الخاصَّة؛ فهي تمثِّل الانتماء الثالث إذًا! والأرض تعني الوطن أو الدولة، والانتماء إليها مُقَدَّم على ما بعدها، ولكنَّه ليس مقدَّمًا على العقيدة والفكر.
فالأرضُ تسبق في النظريَّةِ العِرقَ؛ ولذلك فالانتماء إلى الوطن أعلى من الانتماء إلى العرق.. وهذا منطقيٌّ من وجهين: أمَّا الوجه الأوَّل فهو أكثر حفاظًا على السلام والأمن في العالم؛ لأنَّ معظم بقاع العالم تعيش فيها أعراقٌ كثيرةٌ مختلطة، وقليلٌ من أماكن الدنيا التي يعيش فيها عرقٌ واحدٌ لا يختلط مع أحد، فلو قدَّمنا العرق على الأرض لنَعِمَ بالأمن عددٌ قليلٌ من سكانه، ولكن لو قَدَّمنا الأرض على العرق لنَعِمَت بالأمن معظم شعوب العالم، وخاصَّةً أنَّ هناك شعوبًا يغلب عليها التعدُّد العرقي الكبير جدًّا؛ مثل أميركا وكندا وأستراليا.
وأمَّا الوجه الثاني فهو أنَّ الإنسان يُمكن في حالاتٍ معيَّنةٍ أن يُغَيِّر وطنه، فلو حدث له في وطنه اضطهاد أو قهر أو حتى تضييق في أمور معيشته، فإنَّه من الممكن أن ينتقل إلى غيره، وهذا قد يستهجنه البعض نظريًّا، لكن واقع الأمر أنَّه موجودُ بكثرةٍ في العالم، وفي صورٍ محترمةٍ وطيبة، بل قد تكون صورًا مبجَّلة ومُعظَّمة! ومثال ذلك ما ذكرناه آنفًا من قضيَّة هجرة المسلمين عندما اضطُهدوا في مكة إلى المدينة المنورة، فقد صارت دولة المدينة المنوَّرة هي دولتهم، وانتقلت حياتهم كلُّها إليها، وصار انتماؤهم واضحًا للمدينة لا لمكَّة، بل عندما فُتحت مكَّة لم يعودوا إلى ديارهم وأرضهم، إنَّما أكملوا حياتهم في المدينة.. فقد "اختاروا" هذا الوطن الجديد، وهذا اختيار مُبَجَّل ومُعَظَّم؛ لأنَّه كان حفاظًا على ما هو "أسمى" وهو العقيدة.
وكذلك رأينا هجرة أيِّ إنسانٍ من أيِّ بلدٍ إلى أميركا؛ ليعمل فيها ويبحث عن مصدرٍ لرزقه، فهذا كفاحٌ ليس فيه بأس، بل قد يُشكر الإنسان على سعيه في طلب الرزق -وعدم استكانته لظروفٍ معيشيَّةٍ صعبة- في مكانٍ آخر، فرجلٌ صينيٌّ أو هولنديٌّ أو كينيٌّ هاجر إلى أميركا منذ عشرات السنين أصبح الآن أميركيًّا يُدافع عن هذا الوطن، ويتبنَّى قضاياه، وينتمي إليه، ويعتزُّ به، وها نحن أولاء نرى رجلًا من عرقٍ كينيٍّ أسود -وهو باراك أوباما- يصعد إلى أعلى منصب في الولايات المتحدة الأميركيَّة وهو منصب الرئاسة!
فهؤلاء جميعًا غيَّروا أوطانهم بإرادتهم، سواءٌ كان هذا التغيير محمودًا أم مذمومًا، له مبرِّرٌ معقولٌ أو دون مبرِّر.
أمَّا العرق.. فكيف نُغَيِّره؟!
إنَّه أصعب في التغيير لا شَكَّ من تغيير الوطن.. ونحن لا نملك تغييره لأنفسنا؛ إنَّما نملك جزءًا من تغييره لأولادنا وأحفادنا، عن طريق التزاوج من عرقيَّاتٍ أخرى، فتخرج عرقيَّاتٌ مختلطة، وهذا حَسَنٌ، ويُذيب فوارق كبرى بين الشعوب.. لكنَّ الشاهد أنَّ العقل يتدخَّل بصورةٍ أكبر في "اختيار" الوطن، ونحن نُقَدِّم في الانتماء ما اعتمد على العقل والاختيار قبل الذي يعتمد على الجبر والإكراه.
فهنا في ضوء النظريَّة يُصبح الانتماء مرتَّبًا بهذه الصورة: العقيدة فالثقافة فالوطن ثُمَّ العرق.. أمَّا بقيَّة المشتركات فقَلَّ أن تُقَسَّم الشعوب على أساسها، وإن حدث هذا التقسيم فهو يكون أضعف من هذه الانتماءات السابقة.
ولا أحبُّ أن أترك هذه النقطة دون أن أُكرِّر أنَّ الأَوْلى هو الجمع بين كلِّ الانتماءات، والحرص عليها كلِّها، وإقامة علاقة الودِّ والتعارف والتواصل مع كلِّ الشعوب التي تنتمي إليها، وليس في هذا الجمع تعارضٌ مع الأديان، بل على العكس، فالإسلام -مثلًا- يُعلي جدًّا من شأن العقيدة، ويُقَدِّمها على كلِّ شيء، لكنَّه يحضُّ -كذلك- على الفكر الراقي البنَّاء، وفي الوقت نفسه يُشَجِّع على حماية الأوطان والزود عنها، وكذلك يحضُّ على صلة الأرحام والاهتمام بالأقوام، والجمع بين كلِّ هذا يكفل سلامًا أوسع، وأمانًا أدوم، وتعارفًا يُقَلِّل من وتيرة الصدام أو يُلغيه.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
التعليقات
إرسال تعليقك